يونس الركيك
في لحظة فنية نادرة تمزج بين التراث والدهشة، وبين الشرق الآسيوي وسحر الضفة المتوسطية، احتضن مسرح ISADAC-THÉÂTRE-LAB عرضًا مبهرًا لفن الأوبرا الصينية التقليدية، قدمته فرقة فنية مرموقة قادمة من بكين، وذلك في إطار برنامج ثقافي مشترك بين المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي (ISADAC) والسفارة الصينية بالمغرب.
العرض الذي أقيم مساء الجمعة، لم يكن مجرد حدث فني عابر، بل مثّل جسراً حقيقياً بين حضارتين ضاربتين في التاريخ، وجاء ليجسد قوة الفن في مدّ جسور الحوار والتلاقح الحضاري، في زمن يشتد فيه الصخب الثقافي وتُختزل فيه المعاني.
رحلة إلى قلب الشرق العميق منذ اللحظة الأولى لانطلاق العرض، أحسّ الحاضرون – من فنانين، وأساتذة، وطلبة، وسفراء، وشخصيات دبلوماسية – أنهم على موعد مع تجربة فنية فريدة، تنتمي إلى ثقافة بعيدة جغرافياً، لكنها قريبة روحيًا وإنسانيًا. فقد تميز العرض بتقديم مشاهد منتقاة من أشهر كلاسيكيات الأوبرا الصينية، منها “مولان”، و”أسطورة زهرة اللوتس”، و”حكاية القمر الخالد”، وهي أعمال تُعدّ من رموز المسرح التقليدي في الصين.
بمزيج دقيق من الرقص والغناء والتمثيل والإيماء، أبدع الفنانون في تقديم لوحات مسرحية ساحرة تنبض بالحياة، ترافقت مع موسيقى صينية أصيلة أُدِّيت على آلات تقليدية كـ”الإيرهـو” و”الكوتشينغ”، ما أضفى على العرض سحرًا صوتيًا بصبغة تاريخية خالصة.
إبهار بصري وتعبير رمزي و ما ميّز العرض أيضًا هو الاهتمام بالتفاصيل الدقيقة: الأزياء الزاهية التي رُصّعت بخيوط ذهبية، والماكياج المُتقن الذي يعكس رمزية كل شخصية، والحركات الدقيقة التي تحاكي فنون القتال أو الرومانسية أو التراجيديا، في توليفة متقنة استحضرت فيها الفرقة تراث الأوبرا الصينية العريق، الذي يمتد لأكثر من 1300 سنة.
وقد عكست التصاميم المسرحية واشتغال الإضاءة براعة فنية لافتة، جعلت من كل مشهد تجربة بصرية متكاملة، حيث لعب الضوء دورًا سرديًا موازيًا للأداء، عبر تنقلاته الدقيقة بين الظل والضوء، بين الحلم والواقع، في خدمة البعد الرمزي الذي يشكل لبّ هذا الفن الآسيوي.
تفاعل الجمهور وتقدير عميق للفن الصينية بالقاعة كانت غاصة بالحضور، والتفاعل كان على أشده. لم تكن هناك حاجة لفهم اللغة الصينية، فالجمهور تابع المشاهد بانجذاب تام، إذ إن لغة الجسد، وتعبيرات الوجه، وتناسق الحركة مع الإيقاع، كانت كافية لإيصال المشاعر بوضوح. في كل مرة كانت تتعالى التصفيقات، خصوصًا عند مشاهد المبارزة أو الرقصات الجماعية التي تطلّبت مجهودًا حركيًا هائلًا.
في نهاية العرض، وقف الجمهور إجلالًا للفنانين، وصفّق مطولًا، في لحظة مؤثرة جمعت بين التقدير والانبهار. بعدها، تم تنظيم لقاء قصير بين ممثلي الفرقة والفنانين وطلبة المعهد، تبادلوا خلاله النقاشات حول عناصر الأداء وأساليب التكوين في الأوبرا الصينية.
ليلى بوحسين، أستاذة المسرح بالمعهد، صرّحت عقب العرض قائلة: “هذا النوع من الفنون التقليدية لا يُدرَّس لدينا كثيرًا، لكنه ضروري لفهم التنوع الثقافي العالمي. عرض اليوم كان درسًا حيًا في كيف يمكن للمسرح أن يكون مرآة لروح الأمة، ووسيلة للحوار بين الحضارات.”
من جانبه، قال السيد لي واي، الملحق الثقافي بسفارة الصين، إن هذا العرض يأتي ضمن سلسلة أنشطة ثقافية تُنظَّم في عدة مدن مغربية خلال هذه السنة، بمناسبة “عام الثقافة الصينية في المغرب”، مؤكدًا على أهمية تعزيز التعاون الثقافي بين البلدين من خلال الفن والفكر والتعليم.
منصة الانفتاح على العالم و يُعد تنظيم هذا العرض في فضاء ISADAC-THÉÂTRE-LAB مؤشرًا واضحًا على الدور المتنامي لهذا الفضاء الأكاديمي في فتح آفاق الطلبة على التجارب المسرحية العالمية، وعلى التزام المؤسسة بتكوين فنانين مثقفين منفتحين على مختلف الحساسيات الفنية والثقافية.
العرض لم يكن مجرد تجربة فنية ممتعة، بل كان درسًا في التسامح، والجمال، والقدرة على الإصغاء إلى الآخر المختلف. لقد أثبت مجددًا أن الفن، حين يكون أصيلًا وصادقًا، لا يحتاج إلى ترجمة… يكفي أن يُرى ويُحسّ.