اخبار

عبد القادر الشاوي يتذكر بداياته الشعرية في تطوان ويوقع ديوانه ويقرأ آخر القصائد

عاد عبد القادر الشاوي إلى مدينته تطوان، مثلما عاد إلى الشعر الذي كتبه منذ نهاية الستينيات، في لقاء احتضنته مدرسة الصنائع والفنون الوطنية بدعوة من دار الشعر بتطوان، نهاية الأسبوع الماضي، وحضره شعراء ومبدعون ومثقفون ورفاق درب الشاوي، على إيقاعا ومقامات عازف الناي الملحن والمؤلف الموسيقي رشيد زروال. بينما اختتم الشاوي هذا اللقاء وهو يقرأ قصائده الجديدة التي تعدنا بديوان شعري آخر قادم من المستقبل.

واعتبر مخلص الصغير، مدير دار الشعر، أنه “من الطبيعي أن يعود عبد القادر الشاوي إلى نشر قصائده الشعرية التي استهل بها تجربته في الكتابة، ذلك أن الشعر لم يغب عن نصوصه السردية، كما لم تغرب عن سروده تلك الشاعرية الضافية. وهي النصوص التي شغلت مختلف طبقات القراء في المغرب والعالم العربي…”.

وبحسب الصغير، فإن عبد القادر الشاوي لا يمكن إلا أن يكون شاعرا، ما دام الشعر صوتَ الذات وأنين الأنا. والحق أن السر من وراء نجاح التجربة الكتابية لعبد القادر الشاوي إنما يعود إلى انتظام جل أعماله حول سؤال واحد يؤطر التجربة هو سؤال الأنا والذات. الذات بإزاء ذاتها، وبإزاء الآخر. من هنا، تتراوح سائر هذه الأعمال بين السير ذاتي والتخييل الذاتي، بينما يستند الشاوي في ذلك كله إلى معرفة نظرية ونقدية موسعة حول الكتابة السيرية والسير روائية والتخييل الذاتي…

وقدم الشاعر جمال الموساوي ورقة حول الديوان بعنوان “العودة بالشعر إلى نبعه الفلسفي”، فجاء الديوان في “ما يشبه هجرة معاكسة، حيث ينزح عبد القادر الشاوي من الرواية، ومن التخييل الذاتي كجنس كتابي أثير لديه نحو الشعر. كأنه بذلك يغطي الفراغ في ساحة الشعر التي يهجرها الشعراء نحو الرواية”.

وبحسب الموساوي، يمكن للقارئ أن يمر من “المتاهات التي يدخله الشاوي فيها حين يقرأ رواياته أو كتاباته في التخييل الذاتي، ليتعامل مع النص باعتباره تعبيرا حقيقيا عن عبد القادر الشاوي الشاعر كذات تعيش توتراتها وقلقها في مواجهة العالم. ذلك أن الشعر هو الجنس الإبداعي الذي لا يمكن للذات أن تتملص منه. فهو على خلاف الأجناس الأخرى ينطلقُ من أقصى الخصوصيات الذاتية ليعبر عن رؤية للعالم ليس على لسان شخصيات متخيلة أو على لسان سارد يكون هو القناع، بل على لسان الشاعر نفسه. وبذلكَ فكل شعر إنما يحمّل الكلماتِ الحالة التي تكون عليها الذات، توافقا أو توترا، في علاقتها بالأشياء، وبالآخرين، وبالعالم”.

من هذا المنطلق، يخلص جمال الموساوي إلى أن هذا الديوان قد يكون الكتابة الأكثر تعبيرا عن الشاوي بلغته الأصيلة التي بدأ بها وعاد إليها، نشرا على الأقل، بعد مسافة زمنية طويلة، أي لغة الشعر المنطلقة من الذات يقودها ضمير المتكلم بتلك النرجسية المشروعة للشاعر الذي ينفرد بالإقامة في اللغة كبيتٍ رمزي يحتفي فيه بنفسه، ويستضيف فيه تلك الكائنات اللامرئية التي تتمثل في مشاعره المتناقضة سلبا وإيجابا في تفاعلها بداخله.

وتساءلت الشاعرة وداد بنموسى عن كيف ندخل نصوص ديوان “بالنيابة عني.. يا أيها القناع” إن لم يكن برِجل في الفراغ وأخرى في السحاب، بعين تبصر وعين عمياء، بيد تقطف المعاني وأخرى تحنو على الحواس، بقلب نصفُهُ مؤمن بالغبطة ونصفهُ الثاني مستسلم للألم الذي في البوح؟ وكيف نقرأ القصيدة تلو القصيدة إن لم يكن بنوع من الاحتفاء بالسر العظيم الذي يكمنُ في شغف الكتابة؟… انطلاقا من هذه الأسئلة سوف تنتهي الشاعرة إلى تبين نوع من “التشابه والتماهي والتناغم بالغ الأثر الذي عثرت عليه في منجز فرناندو بيسوا وفي ما راكمه عبد القادر الشاوي من إبداع.

وإضافة إلى التراكم ثمة ما يشبه أسلوب حياة. فبينما خلق بيسوا من نفسه أندادا كثيرين، كذلك فعل الشاوي وخلق من نفسه كتابا في الرواية والنقد والمقالة السياسية والبحث في تاريخ الأحزاب ومواضيع لا حصر لها… وفي أحايين كثيرة بأسماء مستعارة، لكن الشاعر بقي دائما هو المتواري خلق كل وهج، يحرض وجدان الشاوي على الكتابة التي لا تخلو من الشعر. فالشعر كان هو الحياة الأخرى، الشعر هو الملاذ، هو الذي يترجم صرخات الوجود، وهو الذي يسد تلك الفراغات الوجدانية العميقة، فكان الشعر حتى في الرواية وفي المقالة وفي القصة وفي اليومي كأنه الصلاة التي منها تتفق ينابيع البياض. ومثلما استهلت بنموسى مداخلتها بالأسئلة ختمتها بمثلها، متسائلة: هل في هذه القصائد بعض مما تناثر من أيام عمر الشاعر الهاربة من ثنايا الرواية؟ وهل روحه آهلة إلى هذا الحد بالحكي والقول والشكوى، والبوح والاعتراف؟ أم أنه، ومن خلال الكتابة التي هي فعل عطاء وسخاء وعراء بامتياز، يترجم ما قاله أبو العباس السبتي “الوجود ينفعل بالوجود”، لتنتهي إلى أن الأمر يتعلق بحياة شاعر آهلة بالشعر والموسيقى والأدب.

واختتم الكاتب والشاعر عبد القادر الشاوي هذا اللقاء بورقة شدد فيها على صعوبة الشعر، انطلاقا من قولة الحطيئة الشهيرة “الشعر صعب وطويل سلمه…”، والتي تعرف عليها وعلى صاحبها الحطيئة، حين كان يتابع دراسته في ثانوية القاضي عياض بتطوان، في منتصف الستينيات من القرن الماضي.

ليتساءل الشاوي عن كيف لهذا الشاعر الذي هجا الجميع، بمن في ذلك أمه ونفسه، أن يكتب الشعر، كيف أتاه الشعر؟ وهل كان له حرفة؟ وكيف استطاع بهذا المزاج الإنساني والعدوانية المفترضة أن يصبح في الهجاء أهم شاعر عربي، قاله بمكر ووعي واهتمام بالكسب وقوة في التعبير؟ وكيف فوق هذا وذاك وضع، بخبث وعجرفة، أمام كل محاول عراقيل لا يمكن تجاوزها في قول الشعر، منظوما أو مرسلا، وإلا زَلَّت به قدمه إلى الحضيض؟

كيف استطاع الحطيئة بمثل هذه الشراسة المعنوية واللفظية التي ترجمها في هَجْوِه أن يفترض لغيره سُلما أراده للشعر، وأوجب على من يريد ارتقاءه أن يكون عالما بالصعوبة والطول والارتقاء والعلم والإعراب، ناهيك عن علمه الآخر، لعله النقيض، إن هو لم يتمكن من ذلك، أي بالزلل والحضيض والإعجام وعدم الاستطاعة؟

ومع ذلك، يقول الشاوي، شرعتُ في كتابة الشعر بتأثير واحتكاك مع الفقيد إدريس برهون الذي كان معجبا بالشاعر إبراهيم ناجي ورومانسيته الأسيفة، ناقما على المحدثين المتأخرين الذين صاروا يكتبون شعر التفعيلة قبل أن يظهر فيهم الشعر الحديث المنثور. ويوم أرسلتُ ذلك للنشر في جريد (الكفاح الوطني) (أواخر 1968)، وعمري أقل من تسعِ عشرةَ سنة، فَنُشِرت القصيدة، أدركتُ أنني لم أرتق سلما ولم أسقط بالمثل إلى الحضيض. ناج أنا و(“فجر وفلسطين”، اسم المقطوعة الشعرية) على صدري تدفعني إلى الاستزادة مما اجترحته بصورة لاوعية تقريبا. كان الفرح هكذا إذن، وسرحتُ مع آخرين في شارع محمد الخامس بتطوان، أيام عطلة ما حين كان يحلو الذهاب والإياب فيه فضلا عن تقشير بذور طنوار الشمس” مزهوا بنفسي قبل أن أتحول عن ذلك إلى الإيديولوجية فصرتُ أعتبر النضال هو الزهو الحقيقي الذي يجب أن يتسلح به المناضل في المواجهة فأقلعتُ، بوعي خاطئ، عن كتابة الشعر… ولم يكن ذلك إلا لمرحلة قصيرة. عاد إليّ الشعر في بداية تجربة أليمة، ولم أصبح شاعرا بعد أن خرجتُ من امتحان تلك التجربة مهدودا مكدودا، ولكنني أيقنتُ، ونفسي شاهدة على ذلك تُفْحِمُني، بأنني لا أستطيع أن أكون شاعرا، وأن ما كتبته بالطريقة التي أتقنها، ولعلها مستوحاة من قراءات شعرية سابقة قديمة وحديثة، إنما هو شعوري بنفسي وما أنا عليه من أوضاع:

العزلة ميداني، الكتابة تعبيري، والتجربة (التجارب) مساري. ولهذا وضعتُ عنوانا لما حَبَلَت به أيامي من شعر على النحو الذي نُشر به:

أي “بالنيابة عني”، معربا هذا العنوان بأنه الفعل الماضي المبني للمعلوم، منسوب للضمير هوّ، ولكنه أنا، والمصروف من الفعل المجرد ناب من الجذر نَوَبَ. وإليه بإعراب عني: حرف الجر المبني على السكون لا محل له من الإعراب، وياء المتكلم ضمير(ي) مبني على السكون في مجل جر، جار ومجرور. والملاحظ بعد هذا أنني ناديت، متخففا شيئا ما من النرجسية، على قناعي فكان لي كما كنتُ له قناعا…

شارك المقال شارك غرد إرسال