اخبار

اللامرئيون الجدد: طبقات اجتماعية تتشكل خارج الرادار السياسي

حسام بوزكارن

صعود الفئات الهامشية خارج مؤسسات الوساطة

في مغرب العقدين الأخيرين، لم تعد الظواهر الاجتماعية تتشكل داخل الحقول التقليدية، بل أضحت تتكون بصمت، في تخوم المدن، في الأزقة الخلفية للمنظومة، وفي زوايا اللامرئي. لقد صعدت إلى السطح فئات جديدة لا تندرج ضمن التقسيمات الكلاسيكية للطبقات الاجتماعية: لا هي من البروليتاريا القديمة، ولا من البرجوازية المستقرة، بل هي كيانات سيالة، هجينة، تتكون خارج مؤسسات الوساطة الاجتماعية المعتادة: لا نقابات، لا أحزاب، لا جمعيات.

هؤلاء ليسوا فقط فقراء بالمعنى الاقتصادي، بل مقصيون من اللغة التي تصفهم. لا يدخلون في الإحصاءات، ولا يجدون تمثيلا رمزيا في الخطاب السياسي. ومع ذلك، فهم جزء حي من نسيج المجتمع، يتكاثرون خارج الرؤية المؤسساتية، ويعيدون رسم الخريطة الاجتماعية من دون ضجيج.

التمثيل السياسي في مواجهة الظواهر الاجتماعية الجديدة

السؤال الجوهري هنا : كيف يمكن للتمثيل السياسي أن يستوعب ما لا يمكنه رؤيته أو تسميته؟ لقد فشل العمل الحزبي في رصد هذه الكتل الاجتماعية الجديدة، لأنها ببساطة لا تدخل ضمن قنوات “الاشتغال السياسي” المعهودة. ليس لها ناطقون رسميون، ولا تنتج خطابا يمكن التفاوض معه، ولا تقدم مطالب مؤطرة بالمنطق القديم للاحتجاج أو التعبئة.

هؤلاء “اللامرئيون” لا يحتجون، بل ينسحبون. لا يشاركون في الانتخابات، بل يراقبون من بعيد. إنهم يمارسون السياسة بلا سياسة، عبر أنماط عيش متمردة، واختيارات حياتية خارجة عن المألوف، ورفض ضمني للتموقع داخل المعادلات الجاهزة. هم أبناء واقع لم تعد الأحزاب قادرة على فك شفراته، لا لأنهم غامضون، بل لأن الوسيط السياسي فقد أدوات الفهم.

حين يفشل الرادار الحزبي في التقاط ديناميات المجتمع

ما يحدث اليوم في المجتمع المغربي يشبه “تخثرا صامتا” في طبقات لا تزال تقرأ بأدوات عتيقة. الرادار الحزبي، الذي صمم لقراءة المجتمع في زمن الاستقطاب الثنائي، أصبح أعمى أمام ديناميات الانفصال الصامت، والتشكل المتعدد، والتسيب الرمزي.

أصبح الحزب عاجزا عن التقاط هذه التحولات، لأنه ببساطة لا ينزل من برجه التنظيمي ليرى ما تغير في الأرض. في الماضي، كانت الأحزاب تتقدم بخطاب تغييري نحو القواعد؛ اليوم، تحاول اللحاق بمجتمع سبقها وتجاوزها، مجتمع ينتج تمثيلاته الرمزية خارج السياسة، في الموسيقى، في منصات التواصل، في اقتصاد الظل، بل وفي “اللاانتماء” نفسه.

إننا إزاء طبقات اجتماعية لا تطالب بشيء، لأنها لم تعد تؤمن بإمكانية التغيير عبر القنوات الموجودة. وهذه أخطر مراحل التفكك السياسي: حين لا يكون هناك خصم واضح، بل فراغ وجودي لا يمكن ملؤه بالخطابات أو البرامج.

اللامرئيون الجدد ليسوا مجرد فئات اجتماعية في الظل، بل هم إشارة إلى فشل البوصلة السياسية في التقاط التحولات المجتمعية الدقيقة. إنهم مرآة لنهاية مرحلة، وبداية أخرى لا تزال بدون مفردات. وحين يفقد السياسي قدرته على التسمية، يفقد معها القدرة على التأثير.

المطلوب اليوم ليس فقط تحديث أدوات العمل السياسي، بل إعادة التفكير في اللغة التي نصف بها المجتمع. لا يكفي أن ننتج خطابا عنهم، بل أن نصغي لصمتهم، ونقرأ وجودهم كما هو: متحررا من القوالب، ومستفزا للمنطق السياسي القديم.

شارك المقال شارك غرد إرسال