اخبار

“حين يملّ الناس من الأكاذيب.. يبحثون حتى عن كذبة صادقة”

حبيل رشيد

قال الرئيس الفرنسي الراحل شارل ديغول يوماً: “السياسيون مثل النيازك.. يضيئون لحظة ثم يسقطون في العتمة”..

ولعل هذه القولة تصلح اليوم لتفسير حال الانتخابات عندنا.. فقد سقطت النيازك.. واحترقت الشعارات.. ولم يعد في السماء غير دخان كثيف يذكّر الناس بكل ما ضاع منهم من ثقة ومن أمل..

الشباب الذين كانوا يتسابقون إلى صناديق الاقتراع ذات يوم.. صاروا يتسابقون إلى المقاهي.. والذين كانوا يحفظون البرامج الانتخابية عن ظهر قلب.. صاروا يحفظون النكت الساخرة عنها.. أما المواطن الذي كان يحلم بتغيير جذري.. فقد صار يتمنى فقط أن يعيش وسط خراب أقل من خراب الأمس..

ومع ذلك.. ومع هذا الإنهاك الجماعي.. يظهر السؤال الحارق: كيف يمكن لمرشح اليوم أن يقترب من هذه النفوس المحطمة؟ كيف يقنع شعباً خبر الخيانة وذاق طعم الوعود المحروقة؟

الجواب ليس في إحياء نفس الخطاب القديم.. ولا في تجميل نفس البرامج العتيقة.. وإنما في صياغة منطق تواصل جديد.. يقرّب السياسي من الناس لا عبر لغة الخشب.. بل عبر لغة الواقع العارية.. لغة الاعتراف.. لغة السخرية التي تداوي الجراح..

المواطن اليوم لا يريد مرشحاً يعده ببناء مدينة فاضلة.. بل يريد مرشحاً يعترف أن المدينة الواقعية مليئة بالحفر والروائح.. لكنه على الأقل سيحاول تنظيفها ولو قليلاً..
يريد رجلاً يملك الجرأة ليقول: “نعم سأخطئ.. لكنني لن أكرر أخطاء أسلافي.. ونعم سأتعثر.. لكنني سأتعثر أمامكم لا من وراء ظهوركم”.

الاستراتيجية الجديدة لا تحتاج إلى رزم الورق.. ولا إلى صور ضخمة.. ولا إلى كلمات منمقة.. بل تحتاج إلى صدق لاذع يوازي الألم الشعبي.. تحتاج إلى خطاب يمزج الواقعية بالسخرية.. فيحاكي لغة الشارع بقدر ما يوقظ ضمير السياسة..

إن الذين سبقوا فشلوا لأنهم أقنعوا الناس أن السياسة جنّة.. بينما اكتشف المواطن أنها جحيم.. أما المرشح الذكي فسيقول للناس: “لن أفتح لكم باب الجنة.. ولكنني سأحاول أن أغلق أبواب الجحيم”.. وهنا يكمن الفرق بين خيانة جديدة وصدق متأخر..

السياسة ليست ضرباً من الخيال.. بل صناعة الممكن من قلب المستحيل.. ومن يملك شجاعة القول: “أنا لست ملاكاً.. لكنني لست شيطاناً أيضاً”.. هو وحده من يستطيع أن يوقظ في الناس رغبة التصويت بعد موتها..

وهكذا.. حين يكون الخطاب واقعياً.. ساخراً.. مطنباً.. لكنه مشبع بالاعتراف.. ومؤسساً على روابط منطقية صلبة.. فإن القارئ ـ الناخب ـ ينجذب إليه من دون وعي.. لأن السياسة في النهاية ليست معادلات جامدة.. بل هي فن إقناع النفوس المنهكة بأن هناك بارقة ضوء في آخر النفق.. ولو كان الضوء مجرد سخرية من ظلام طال أكثر مما يجب..

شارك المقال شارك غرد إرسال