مراكش : محمد منير
في مساء بارد من دجنبر، اشتعلت في المركب الثقافي الداوديات شعلةُ مسرحٍ طالما انتظرته المدينة الحمراء. لم يكن مجرد عرض ما قبل أول، بل ولادة جديدة لمسرح يرفض أن يشيخ، ويتشبث بقدرته على ملامسة الوجدان وإثارة الأسئلة. هناك، وقفت فرقة «آرتو للمسرح وفنون العرض – أيت أورير» لتقول لجمهورها المكتظ حدّ الاختناق: ما زال في الفن الرابع متسع للدهشة، وما زال في المغرب مسرحيون قادرون على صناعة فرجة ذات روح.

عودة العرّاب المسرحي
عاد مصطفى تاه تاه إلى الخشبة كمن يعود إلى بيته الأول، عودة العارف، الممسوس بطاقة المسرح وقداسته. بصمته الإخراجية كانت واضحة منذ المشهد الأول؛ بساطة مشتهاة، وعمق يتناسل من التفاصيل، وتقطيع بصري يجعل من كل حركة جملةً مسرحية مكتملة. بدا «تاه تاه» وكأنه يلتقط من اليومي هشاشته، ومن العبث فلسفته، ليقدّم عرضاً يضجّ بالحياة رغم أنّه يتحدث عن أشكال موتٍ أخرى: الموت تحت السلطة، الموت بفعل الخضوع، الموت حين يصبح الجوع استعارة أكبر من المعدة.
النص: حين يتحول الصيام إلى مقاومة
استلهم العرض روحه من نص «كوميديا الأيام السبعة» للعراقي عبد النبي الزايدي، لكنه لم يبق أسيراً للأصل. بفضل إعداد عبد المجيد ادهابي، صار النص مغربياً في رائحته ونبضه، يشتغل على الواقع كما يشتغل المنحوت على صلابة الحجر. «الصيام» هنا ليس فعلاً دينياً، بل موقفٌ وجودي. امتناعٌ عن النفاق، عن الانصياع، عن التصالح مع العبث. بيت بسيط يجمع جداً وحفيداً، قبل أن يتحول إلى مسرح لتجربة قاسية ينفذها رجل غريب يسمّي نفسه «الطباخ». رجل لا علاقة له بالمطبخ، بل بالسلطة، بالمساطر التي لا تُرى، وبالعيون التي تراقب من الظل.
اشتغال فني متكامل
الممثلون — رشيد بيديد، عبد الحليم بنعبوش، علال خوداري — قدموا أداءً يراوح بين المرارة والسخرية، بين الهشاشة الإنسانية وتهكم العبث، مستندين إلى إدارة فنية واحترافية دقيقة أشرف عليها الفنان عبد العزيز أوشنوك. استطاع الأداء أن يجعل من الجوع شخصية إضافية فوق الركح، ومن الصمت موسيقى داخلية تقود الإيقاع.

رسالة العرض: فنّ يجرح بلطف
«صيام إجباري» ليس مجرد كوميديا سوداء؛ إنه مرآة، لكنه من النوع الذي يعكس القبح ليفضح جمال المقاومة. عرضٌ يشتغل بذكاء على الحدود الفاصلة بين السلطة والمواطن، بين الجسد المقهور والروح الرافضة، بين الطاعة والصراخ المكتوم. لم يكن غريباً أن يقف الجمهور طويلاً، وأن يغادر القاعة وفي حلقه شيء يشبه السؤال: هل نحن أيضاً نعيش صياماً إجبارياً آخر… بصيغ مختلفة؟
ترقّبٌ لما هو آت
النجاح الكبير لهذا العرض ما قبل الأول يفتح الباب لرحلة مسرحية واعدة عبر مدن المغرب. وإذا كانت ليلة مراكش الأولى قد منحتنا هذه النبرة العالية من الإبداع، فالجمهور على موعد مع عرض قد يتحول إلى علامة فارقة في المسار المسرحي لفرقة «آرتو»، وفي ذاكرة الفن الرابع بالمغرب.
